سورة المائدة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} كرره تأكيدا وتفخيما، وقد تقدم.
الثانية: قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} على التكثير. والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة، قال الله تعالى: {فيسحتكم بعذاب}.
وقال الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحتا أو مجلف
كذا الرواية. أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى، لأن معنى لم يدع لم يبق. ويقال للحالق: أسحت أي استأصل. وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها.
وقال الفراء: أصله كلب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم.
وقيل: سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان.
قلت: والقول الأول أولى، لأن بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له. قال ابن مسعود وغيره: السحت الرشا.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رشوة الحاكم من السحت. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به» قالوا: يا رسول الله وما السحت؟ قال: «الرشوة في الحكم». وعن ابن مسعود أيضا أنه قال: السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها.
وقال ابن خويز منداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها. ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام.
وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك.
قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله، لأن أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه. والله أعلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «لعن اله الراشي والمرتشي». وعن علي رضي الله عنه أنه قال: السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية. وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شي؟ فقال: لا، إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقا فد لزمك، فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ، لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة. وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع، قال المهدوي: ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه.
قلت: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته. وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال: احتج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه، قال ابن عبد البر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل. وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام.
وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه. والسحت والسحت لغتان قرئ بهما، قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين، والباقون بضم السين وحدها.
وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته، يقال: أسحت وسحت بمعنى واحد.
وقال الزجاج: سحته ذهب به قليلا قليلا.
قوله تعالى: {فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} هذا تخيير من الله تعالى، ذكره القشيري، وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة وادع اليهود. ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟ قولان للشافعي، وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم. قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي. واختلفوا في الذميين، فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير، روى ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى، فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما. وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال: يجلدان ولا يرجمان.
وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا. قال ابن خويز منداد: ولا يرسل الامام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم. فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام. وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم، لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم، ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا، ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات، لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين. وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات، لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد. والله أعلم.
وفي الآية قول ثان: وهو ما روي عن عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} وأن على الحاكم أن يحكم بينهم، وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. وروي عن عكرمة أنه قال: {فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها آية أخرى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49].
وقال مجاهد: لم ينسخ من المائدة إلا آيتان، قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ}، وقوله: {لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وقال الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله. قال السمرقندي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا.
وقال النحاس في الناسخ والمنسوخ له قول تعالى: {فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} منسوخ، لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ}. وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر ابن عبد العزيز والسدي، وهو الصحيح من قول الشافعي، قال في كتاب الجزية: ولا خيار له إذا تحاكموا إليه، لقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} [التوبة: 29]. قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات، لأنه إذا كان معنى قوله: {وَهُمْ صاغِرُونَ} أن تجرى عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة. وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الامام أنه ليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم.
وقال الباقون: يحكم، فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس، ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة، لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الامام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه. قال النحاس: ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر، منهم من يقول: على الامام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} يحتمل أمرين: أحدهما- وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك. والآخر- وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك- إذا علمت ذلك منهم- قالوا: فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا، فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]. وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي قد جلد وحمم فقال: «أهكذا حد الزاني عندكم» فقالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: «سألت بالله أهكذا حد الزاني فيكم» فقال: لا. الحديث، وقد تقدم. قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث. فإن قال قائل: ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيل له: ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أبو عمر بن عبد البر: لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج، لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41] يقول: إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حكموه. وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره. فإن قال قائل: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا رضيا بحكمه. قيل له: حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته. ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} النفس بالنفس، ونزلت: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50].


{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}
قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ} قال الحسن: هو الرجم.
وقال قتادة: هو القود. ويقال: هل يدل قوله تعالى: {فِيها حُكْمُ اللَّهِ} على أنه لم ينسخ؟ الجواب- وقال أبو علي: نعم، لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت وقوله: {وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي بحكمك أنه من عند الله.
وقال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرضى به فهو كافر، وهذه حالة اليهود.


{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ}. أي بيان وضياء وتعريف أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق. {هُدىً} في موضع رفع بالابتداء {وَنُورٌ} عطف عليه {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا} قيل: المراد بالنبيين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبر عنه بلفظ الجمع.
وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة، وأن اليهود قالت: إن الأنبياء كانوا يهودا. وقالت النصارى: كانوا نصارى، فبين الله عز وجل كذبهم. وعمني {أَسْلَمُوا} صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي، ويقال: أربعة آلاف. ويقال: أكثر من ذلك، كانوا يحكمون بما في التوراة.
وقيل: معنى: {أَسْلَمُوا} خضعوا وانقادوا لأمر الله فيما بعثوا به.
وقيل: أي يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعنى واحد. ومعنى: {لِلَّذِينَ هادُوا} على الذين هادوا فاللام بمعنى على.
وقيل: المعنى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وعليهم، فحذف عليهم. و{الَّذِينَ أَسْلَمُوا} هاهنا نعت فيه معنى المدح مثل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. {هادُوا} أي تابوا من الكفر.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار، أي ويحكم بها الربانيون وهم الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره، عن ابن عباس وغيره. وقد تقدم في آل عمران.
وقال أبو رزين: الربانيون العلماء الحكماء والأحبار. قال ابن عباس: هم الفقهاء: والحبر والحبر الرجل العالم وهو مأخوذ من الحبير وهو التحسين، فهم يحبرون العلم أي يبينونه ويزينونه، وهو محبر في صدورهم. قال مجاهد: الربانيون فوق العلماء. والألف واللام للمبالغة. قال الجوهري: والحبر والحبر واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح: لأنه يجمع على أفعال دون الفعول، قال الفراء: هو حبر بالكسر يقال ذلك للعالم.
وقال الثوري: سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا؟ فقال: يقال للعالم حبر وحبر فالمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية. قال: فسألت الأصمعي فقال ليس هذا بشيء، إنما سمي حبرا لتأثيره، يقال: على أسنانه حبر أي صفرة أو سواد.
وقال أبو العباس: سمي الحبر الذي يكتب به حبرا لأنه يحبر به أي يحقق به.
وقال أبو عبيد: والذي عندي في واحد الأحبار الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. قال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح، والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر. والحبر أيضا الأثر والجمع حبور، عن يعقوب. {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ} أي استودعوا من علمه. والباء متعلقة ب {الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ} كأنه قال: والعلماء بما استحفظوا. أو تكون متعلقة بـ {يَحْكُمُ} أي يحكمون بما استحفظوا. {وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ} أي على الكتاب بأنه من عند الله. ابن عباس: شهداء على حكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه في التوراة {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} أي في إظهار صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإظهار الرجم {وَاخْشَوْنِ} أي في كتمان ذلك، فالخطاب لعلماء اليهود. وقد يدخل بالمعنى كل من كتم حقا وجب عليه ولم يظهره. وتقدم معنى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا} مستوفى.
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ} و{الظَّالِمُونَ} و{الْفاسِقُونَ} نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم. وعلى هذا المعظم. فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة.
وقيل: فيه إضمار، أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار.
وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر، فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول، إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس، قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء، منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله: {لِلَّذِينَ هادُوا}، فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك، ألا ترى أن بعده {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ} فهذا الضمير لليهود بإجماع، وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص. فإن قال قائل: {من} إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها؟ قيل له: {فَمَنْ} هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الادلة، والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا من أحسن ما قيل في هذا، ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل؟ قال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل.
وقيل: {الْكافِرُونَ} للمسلمين، و{الظَّالِمُونَ} لليهود، و{الَفاسِقُونَ} للنصارى، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لأنه ظاهر الآيات. وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعب أيضا. قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر،
وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر، وعزي هذا إلى الحسن والسدي.
وقال الحسن أيضا: أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13